vendredi 16 octobre 2015

قصة قصيرة : حبّ وبحر





حبّ وبحر...





نظر إلى البحر الواسع،كأنّه يريد أن يبوح له بسرّه ...نظر إليه نظرة تحسّر وهزيمة،
وكأنه يلمّح للبحر أنّ هذا الرّجل الواقف أمامه اليوم ،والذّي لطالما أبهجه بابتسامته التّي لم
تغادر وجهه ووجه حبيبته،قد عاد إليه اليوم ليخبره عن نهاية قصّة حبّه التّي خطّها على
رمال شاطئه الكبير ككبر أملهما وحلمهما.
فهذا البحر الصّافي هو الشّاهد الوحيد على صفاء قلب هذا الرّجل الذّي أفنى أغلى وأجمل
أوقات عمره في محاولة إسعاد حبيبته.
حبّ هذا الرّجل الذّي ابتدأ منذ أيّام الجامعة ،ومن أوّل وهلة رآها فيها ،دقّت قلبه فكرة أنّ
هذه الفتاة هي الزّوجة التّي سيبني معها عشّه الزّوجي ،ويربّي معها أولاده...
وبادلته هي الأخرى بالحبّ ،لما رأت منه من حسن المعاملة والاحترام،وإخلاصه لحبّهما.
ولكنّ المرأة كانت تطمح لشيء آخر،كانت تطمح لفرض وجودها في عالم ذكوري قائم على
إقصاء المرأة كما كانت تظنّ...
وكان الرّجل يدّللها إكراما لها ،فيحين كانت تراه هي إذلالا لها وإقصاء لها...ودخلت ذهنها
فكرة أنّها غير قادرة على الاعتماد على نفسها، هذا ما أوقد نار الغلّ في قلبها،
 ، واشتعلت نار الحقد في قلب هذه المرأة التّي عقدت العزم على إثبات وجودها ،
فغاب دفئ الحبّ عن صدرها،وأرادت أن تبرهن له أنّها ليست بحاجة لشفقته بأي ثمن كان.
سنوات من الحبّ ،كلّلت بالزّواج ،وأخذ الزّوج يفكّر في بناء منزل ،وإنجاب الأولاد
،والعيش في حبّ ومودة...ولكنّ نار الحقد على المجتمع الذّكوري عند هذه المرأة لم تنطفئ
بعد ،ولم تبد اهتماما بمشاريع زوجها،بل أرادت الحصول على وظيفة تثبت بها وجودها
خاصّة أنّ الزّوج لم يوفّق بعد في الحصول على عمل دائم.
وأرادت يوما أن تفتح معه الموضوع،لتختبر ردّة فعله لا أكثر ،وترى بأمّ عينها مكانتها عنده: - هل تحبّني يا سليم؟
- نعم بالطّبع.
- هل هو حبّ أم شفقة على ضعفي؟
- ما الحاجة لقول هذا الكلام...هل تشكّين في مدى حبّي لك؟
- دعك من الأمر ...الحقيقة أنّي أفكّر في البحث عن عمل،فمؤهّلاتي العلمية كبيرة .
- لكن هل تستطيعين القيّام بذلك؟.
- هل تشكّ في قدرتي على ذلك...هل أنا ضعيفة لهذه الدّرجة؟
- لا كنت أفكّر في قدرتك على التّوفيق بين عملك وواجباتك المنزلية.
- الواجبات المنزلية...هذا كل ما يطغى عل تفكير الرّجال...حسنا ليلة سعيدة.
- تصبحين على خير.
وراحت تتقلّب في الفراش،غير قادرة على إغماض جفنيها،تعدّ ساعات اللّيل عدّا،وتنتظر
بشدّة طلوع فجر الغد.
استيقظت صباحا باكرا ،وراحت تجهّز نفسها للخروج،ارتدت ثيابا راقية،وحملت بين يديها
 الملفّ الذّي كان يحوي شهاداتها العلمية ،سيرتها الذّاتية ،وشهادات تثبت خبرتها المهنية
وهمّت بالبحث عن وظيفة ،فقد سمعت من صديقة لها أن مدير مؤسّسة كبيرة يبحث عن مساعدة له في الشغل.
ولم يلحظ الزّوج أنّ الزّوجة لم تكن بجانبه في الفراش كالعادة ،إلّا بعد أن سمع صوت باب
المنزل ينغلق ،فنزل من الفراش مسرعا ،ولم يدرك الباب حتّى وجد زوجته قد غادرت
 مسرعة،وقد تركت له رسالة على طاولة الإفطار تخطره فيها أنها ذهبت تبحث عن وظيفة
وربما ستجري مقابلة مع مدير مؤسّسة كبيرة ،وقد تحظى بفرصة العمل لدى المؤسّسة.
فما كان من الزّوج إلّا أن تمنّى لها التّوفيق ،وجلس يحدّق مليّا  في فنجان القهوة الذّي كان
على يمينه،وقطع الحلوى التّي كانت مرمية بعشوائية كبيرة على الطّاولة...
وبدا على وجهه الإحراج،فخروج زوجته للبحث عن عمل ،وحملها همّ النّفقة على البيت
جعله مرتبكا فهو لحدّ السّاعة لم يوفق في الحصول على عمل دائم،وبعض الأعمال الحرّة
التّي يقوم بها وإن كانت لا توفر له الرّخاء،إلا أنها تضمن له العيش الكريم،فكلّ ما يتمنّاه في
حياته عائلة يملؤها الدفء والحنان.
ولكن ما غفل الزّوج عن إدراكه أنّ طموح زوجته أكبر من حصولها على وظيفة تساعده
بها على إعالة البيت،بل كان مرادها شيئا آخر.
وعند المساء عادت إلى المنزل ،ترقص على أنغام الانتصار ،وتلوّح في السّماء بأوراق
 تعيينها في الوظيفة، وكأنّها تريد أن تثبت لزوجها أنّه صار بمقدورها الآن الاستغناء
عن كافّة خدماته،وأنّها ستريحه من طريقة الّتفكير في الإنفاق عليها ،بل صارت مستقلّة
ماديا عنه ،وأصبح لها حساب في البنك ،وحرّية كبيرة في التّصرف واتّخاذ قراراتها بنفسها
وأخيرا تتحرّر من سلطة زوجها.
ولكنّ الزّوج كان سعيدا بحصول زوجته على الوظيفة التّي طمحت إليها،رغم أنّه استغرب
ردّة فعلها الهستيرية.
نزل اللّيل سريعا ،فآوى الرّجل إلى الفراش ينتظر قدوم زوجته،ولكنّها تأخّرت عليه هذه
المرّة في القدوم،فهي جدّ مشغولة في اختيار اللّباس الذّي ستذهب به غدا إلى العمل،يجب
أن تختار لباس يوحي بشخصية قوية وبارزة...لم تصل لحلّ بعد ،مازالت تقلّب الملابس
التي كانت في الخزانة تارة، وتارة أخرى تنتقل إلى مكتبتها فتلقي نظرة سريعة على الكتب
والمراجع المرفوفة على صفوفها حتّى تسترجع بعض المعلومات،ومن حين لآخر تحمل
ردّ القبول في الوظيفة وتحدّق فيه مليّا ومطوّلا،فتختلج صدرها نزعة الانتصار.
وقارب الفجر على البزوغ والزّوجة لم تعد إلى فراش زوجها بعد،فنزل من الفراش وسار
نحو المكتبة ،دفع الباب بلطف،فوجدها مرمية بين كومة من الكتب والملابس ومساحيق
 التجميل،وهي تحضن وثيقة قبولها في الوظيفة في صدرها ،فضرب على كتفها:
- استيقظي يا أمال...صباح الخير.
- صباح الخير يا سليم .
ونظرت إلى الوقت بعد أن فتحت عيناها جيدا.
- ما هذا لقد تأخر الوقت ...علي المغادرة سريعا.
- انتظري يا ...ماذا دهاك؟
- ماذا...ليس لديّ وقت للحديث،تأخّرت عن العمل.
- لقد تغيّرت كثيرا يا آمال...هل الشّغل عندك أهمّ من الدّنيا وما فيها.
- ما ذا تريد مني أن أفعل؟
- لاشيء ...فقط عودي إلى طبيعتك.
- إلى طبيعتي...فتاة مسكينة ،تثير شفقة من حولها...لا أبدا ،أنا اليوم أقوى ،وأقدر على
إثبات وجودي.
- إذا تريدين أن تثبتي وجودك...هذا حق لك،لكن عسى ألاّ يكون على حساب علاقتنا.
- الزّواج كان غلطة عمري ...هل تريدني أن أظلّ حبيسة المطبخ،وصرف سنيني في تربية
الأولاد،لن يحدث هذا .
- أنا لم أقل هذا...بالمناسبة لقد تغيّرت كثيرا.
- أنا لم أتغيّر...أنت الذّي كنت تتجاهل وجودي ورغباتي،كلّ ما كنت تقوم به إملاء
واجباتي عليّ...أنا اليوم لست بحاجة لمواعظك.
وسارت نحو الباب مسرعة،ولحق بها يترجاها التريث قليلا،
- اجلسي لتنازل الفطور...لنتجاوز هذا،فالجدال غير مجدي،وسيفضي لمزيد من المشاكل.
- قلت لك ليس عندي وقت...سأتناول الفطور في الخارج.
وخرجت مسرعة للعمل ،بينما جلس هو على الأريكة بلا عمل،ولا عقل يستوعب ما يدور
في حياته،جلس مستغرقا في التّفكير ،وشريط الأحلام يتوالى عليه...يستذكر العلاقة البريئة
التّي جمعتهما ،ويحاول إيجاد تفسير منطقيّ لما حلّ بهما...وتساءل مع نفسه: كم ستصمد
علاقتهما في ظلّ التّيار القويّ الذّي يضرب بهما؟.
وكما يتقلّب البحر فجأة ويهيج،فترتفع أمواجه عاليا لتأخذ كل ما يعترض طريقها دفعة واحدة
كذلك تقلّبت حياة الزّوجين فجأة رأسا على عقب،وارتفعت حدّة التّوتر بينهما ،وأخذ الحبّ
الذّي جمعهما يتلاشى شيئا فشيئا بين المدّ والجزر إلى أن لم  يبقى منه سوى الزّبد،
وتحوّل الحبّ إلى كراهية وحقد ،واشتعلت نار الغيرة بينهما.
وراحت الزّوجة تجادل زوجها عن المكاسب المّادية التّي يحقّقها كل منهما ،ورأت أنّ
مساهمتها في بناء مستقبل أفضل للعائلة أكثر بكثير من زوجها،ولكنّ الزّوج أراد أن يشرح
 لها أن كل ما يحتاجه هو الحبّ والاحترام،لأنّ هذا هو أساس بناء بيت عائلي تسوده الثّقة
والاحترام،فتردّ عليه الزّوجة بقسوة:-هل سيؤمن لنا الحبّ مستقبل الأولاد،ويضمن
رفاهيتهم؟
- المهمّ أنّه يؤسس لعائلة محترمة...ثمّ عن أيّ أولاد تتحدّثين،وأنت لم تفتحي موضوع
الأولاد قط...ولم تفكّري حتى في الإنجاب ؟
- لا أولاد قبل أن أؤمن لهم مستقبل أفضل...لا أريد أن يعيش أولادي نفس مرارة العيش
التي عشتها.
-يا أمال لا يحتاج الأولاد سوى الحبّ والحنان من الأم ليحصلوا على حياة جميلة.
- بدأت أحس بالملل،فلا جدوى من محاورتك...سأخلد للنّوم ،غدا لديّ عمل كثير.
ومع مرور الأيّام زاد غرور المرأة باستقلالها المّادي،وما توّفره لها وظيفتها من أجر كبير
وبدأت تحسّ أنّ الزّوج زائد في حياتها،فهو بدون عمل ،ولا يوفّر لها حياة الرّخاء والرّفاهية
 التّي تحلم بها،لا إجازات تقضيها معه في الخارج ،ولا هدايا ثمينة يقدّمها لها في المناسبات
 ولا حتّى نزهات خفيفة كما كان يفعل معها في الماضي،فكثيرا ما تثرثر زميلاتها في العمل
عن الهدايا التّي يجلبها لهنّ أزواجهن، والرّحلات التّي يقمن بها،أمّا أمال فلا تجد سوى
الصّمت لتخفي حياتها التّعيسة مع زوجها،ولكنّها ضاقت ذرعا من تهميشه لها على حدّ
فهمها ،وقرّرت إمساك دفّة السّفينة والإبحار بحياتها كما يحلو لها .
وكما يقذف البحر الأشياء الزائدة والميّتة إلى شاطئه فيرميها بعيدا ،كذلك قرّرت أمال أن
أن تنظف حياتها من بؤس الزّوج،وتتفرّغ لتأسيس عمل ناجح لها يدرّ عليها الكثير من المال
ويحقّق لها السّعادة الدّائمة.
وصارحته يوما بما يجول بخاطرها،وأفضت بمكنون صدرها الممتلئ غيضا له،وصارحته
أنّها لم تعد بحاجة ليشفق عليها ،فردّ عليها بكلّ حزم وثقة: اسمعي يا أمال في الماضي كنت
احبك ،أما اليوم فأحبّك وأشفق عليك لما أنت عليه اليوم...
وخرج من الباب وقد انجرحت كرامته ...واختار الانعزال والهروب إلى البحر،إلى المكان
الذّي كان يجد فيه السّكينة رفقة أمال،أين خطّ حياته بصحبتها ،عاد إليه اليوم ،وبعد أن
عقدت العزم على فراقه،عاد ليكمل للبحر نهاية حبّ هذا الرّجل الذّي كان يبحث عن الدّفء
والحنان ،والمرأة التّي طمحت للنّجاح والارتقاء...
فهل يكفي الحبّ يا بحر لبناء عائلة سعيدة، أم يلزمه التّفاهم والتّضحية والوفاء..

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire