vendredi 16 octobre 2015

أنين الضمير




جلسنا كالعادة إلى جدّي الشّيخ حسين،عند الشّجرة الكبيرة التّي توسّطت بيته المتواضع،
الكوخ إلى يميننا،والغنم ترعى عن شمالنا،وبينما نجن جلوس عنده،أبى إلّا أن يروي لنا
حكاية من حكاياته التيّ ،كان يختزنها في ذاكرته،حدثنا قائلا:
-هذه القصة يا أولادي ستعود بنا إلى البداية،إلى نشأة الأرض ،وأوّل مملكة حكمتها
ستعرض لكم هذه القصّة كيف حكمت أوّل مملكة الأرض ،ووفق ماذا جعلت النّهج
الذّي حكم من عليها.
ثمّ سيسلط الضّوء على خليفة الأرض ،الإنسان،لنمرّ بتطوّر الأحداث
وصولا إلى البلاء الذّي مسّ هذا الزّمان ،زمن العصرنة أين انصهرت القيم
والأخلاق،واستبدلت بمفاهيم ابتكرها الإنسان ،فقلبت حياته إلى جحيم
مستعر،وسأعرض لكم فصولها،فصلا فصلا.





حكم القيم والأخلاق:

كان في قديم الزّمان،مملكة عظيمة،قد امتدت ربوعها في الكون
وبسطت نفوذها على سائر الكون والكيان،مملكة كانت تحكم الإنسان و
تحددّ سلوكه،ويكنّ هو لها الولاء والاحترام،كانت مملكة "الأخلاق والقيم"
 تزهر بالحقّ والعدل والحبّ والحنان والإحسان،وكانت تبعا لذلك
تجود على الإنسان بالسّعادة والهناء،فعاش الإنسان عيشة المعزّز المكرّم.
كانت مملكة الأخلاق والقيم المتحكّمة في سلوك الإنسان ،ومحددّة لعلاقته
مع سائر الموجودات ،فكانت تهذّب سلوكه وتصقل إنسانيته ،فكانت نفسه
طاهرة زكيّة، يفوح منها عبق الفطرة الإلهية.
كانت الحياة البشريّة مروج من العطف والحنان،وكان الطّفل اليتيم يقطف
من جنانها المودّة والوئام،وكان الشّيخ الكبير يتلقّى التّحية والاحترام.
كان كلّ شيء يسير على الفطرة ،وكان الكلّ سعيد وراض.
كان الإنسان الجوهرة الغالية،وكانت مملكة الأخلاق والقيم الملاك الحارس
فكانت تسعى جاهدة لحماية الإنسان ،خشية أن تخدش الشّرور النفوس البشريّة
فتزرع فيه بذور الحقد والغلّ،فتصاب بفيروسها،وتذهب عنها طيبتها
وتزول عن الإنسان إنسانيته.
كان جلّ ما تخشاه مملكة الأخلاق والقيم ،هجمات الشّر، ومحاولة الاستحواذ
على عقل الإنسان،وزعزعة حكم مملكة الأخلاق والقيم،فتنشر الفتنة بين الإنسان
والمملكة ،وتصور ولاءه لها على أنّه عبودية ،ورقّ دائم.
وبعد تشاور ونقاش ،توسّطت المملكة عند الضّمير الإنساني،واستنجدت به
ليكون العين التّي لا تنام،لتحرس الإنسان،وتمنعه من الانسياق وراء أهواءه
ويتبّع وساوس الشّياطين ،فتسوقه إلى الجحيم،وتفسد عليه النّعيم الذّي ظلّ
ينعم فيه طوال تمسكه بفطرته،واحتكامه لمملكة الأخلاق والقيم قبل أن يقدم
على أفعاله،فكان ذلك يعود عليه وعلى غيره بالخير.
لبّى الضّمير النّداء،وتقلّد منصب القضاء،وحمل السّيف في وجه الأعداء
ظلّ لصيق بصدر الإنسان ،لا يصدر عقل الإنسان أمرا،إلاّ قلّبه جيّدا
بالفحص والتمحيص ،فكان القاضي في الأمر،لا ينسلّ خلفه منكر إلاّ دقّت
أجراس الإنذار ،أجراس تنذر كل امرئ ليعدل عن أمره،فيشعر الإنسان
بوخز السّهام في صدره،إنّه الضمير يشدّ على قلبه،ويوبّخ نفسه التّي سمحت
للشرّ أن يتسلّل إليها ،فيرجع الإنسان عن أمره،ويفوّض الأمر إلى ربّه
وبعد أن يتجه إلى مملكة الأخلاق والقيم ، كان يدرك عظمة شرّه بفعلته التّي
نوى عليها،فيبدي النّدامة،ويعلن التّوبة.
ظلّ الحال يمشي على سلاسة وسلامة ،مادام ولاء الإنسان لمملكة الأخلاق
والقيم ،ومادام الإنسان لازال يحضن الضّمير،ويرعاه في صدره.
ظلّ الضّمير القاضي في أفعال الإنسان،فكان ينبّه الإنسان عند كلّ خطوة
يخطوها،فإذا تعلّق الأمر بفعل الخير أحسّ الإنسان بشعور جميل يختلج
صدره،شعور بالسّعادة والرّضا عن النّفس ،يريح البال ،ويبسط الوسادة
للإنسان لينام قرير العين،يسرح بعقله في أحلام جميلة.
أمّا إن وسوست له الشّياطين ،وسيطرت قوى الشّرّ على نفسه،وساقت
العقل إلى حيث تبغي ، فغمست الإنسان في كلّ منكر ومحرّم
،وفرشت له البساط وحوّلته إلى وحش مفترس ،طمّاع جشع،لا همّ له سوى
تحقيق مآربه ، وبسط رغباته الأنانية على حساب الأخلاق والقيم
فسينطلق الإنذار،وسيرفع الضّمير لواء الحرب ضدّ العدوان على نفس
الإنسان،ويدق ناقوس الخطر منذرا الإنسان،أنه خان الأمانة ،وتخلىّ عن
إنسانيته ،وأعلن العصيان والعداوة،ووقف في وجه مملكة الأخلاق والقيم
وقد دنّس نفسه الزّكية.
سيظلّ الضّمير يحترق في قلبه،وأنينه يدوّي في صدره ،سيمضي اللّيل
 بطوله يؤنّبه،يحرمه من النّوم.
فإذا حلّ الصّباح،ترى الإنسان قد استقبل الفجر الجديد،وقد اغتسل من ذنب
الأمس،ولبس ثوب التّوبة،وسار إلى بيت أخيه الإنسان،يصحّح خطأه
ويطلب العفو والصّفح،فإذا حصل عليها،ترى البسمة عادت إلى ثغره
وأزيح الغمام الأسود عن صدره،وعادت ملامح الإنسانية تقبّل خدّيه
وتبشرّ من يلمح وجهه من بعيد،أنّه عاد طاهر من جديد.
أمّا الضّمير حام الحمى ،والمدافع الصّامد عن إنسانية الإنسان،فيسعد
بصدر رحب ظلّ يؤويه،ويسرع في استشارته ،ويجدّد ولاءه لمملكة الأخلاق والقيم.
ظلّ الضّمير مفخرة الإنسان،وحامل شعلة الحقّ ،يرتدي ثوب الأمانة،ويضع
على رأسه تاج الفضيلة،يمرّ كلّ ليلة على الإنسان فيقعده في مجلس القضاء
ويخرج الوثائق والأوراق ،ويظهر نبرة الصّرامة،فيدخل مع الإنسان في
حساب عسير ،لا يترك زلّة إلاّ التفت إليها ،وحزن أن تسكن النّفس الشّرّفي قصرها،وتوجد لها مكان  
 تعشّش فيه لتنفث سمّها الأسود،ليعكرّ صفاء الرّوح وبياض القلب.
إنّها ليلة الحساب ،اللّيلة التّي يفتح فيها الضّمير كتاب خطايا الإنسان
ومظالمه التّي جناها طوال النّهار،سيرجع الضّمير إلى مرجعه المقّدس،إلى
أحكام مملكة الأخلاق والقيم،يلقي الضّوء على أفعاله،ويرى إن كان ذلك
يتماشى مع أحكام مملكة الأخلاق والقيم،أم أنّ سلوكه لا يرقى لمنزلة الإنسان
الذّي جبله الخالق على الفطرة السّليمة ،وأنّه قد انحرف عن مساره،وتسلّلت
إلى نفسه الوساوس،وسمح لها عقله بالسّيطرة عليه،فراح يقوم بالأعمال
 المشينة،وينتهج السّلوكيات المنبوذة والمحرّمة في مملكة الأخلاق والقيم،
فيعيث في الأرض الفساد،ويتعدّى على العباد،بلا حقّ ،ولامبالاة ،تاركا
ضميره خلف ظهره،
هنا يجب على الضّمير أن يتقلّد منصبه،ويؤدّي دوره ،ويسعى جاهدا لإعادة
الأمور إلى نصابها ،فيظلّ يؤرّق الإنسان ،ويشدّ على صدره شدّا تتقطّع
معه نفس الإنسان ،ويدمع معه فؤاد الإنسان،فتتراجع فيروسات الشرّ فاتحة
المجال لعودة بذور الخير والإحسان،فيعلن الضّمير انطلاق الأعياد
والأفراح،فتبرز النّجمات الذّهبيات ،في السّماء العلياء،تضيء الدّروب
وتعمّ الفرحة والبهجة والهناء،ويشمت الكلّ في الأعداء،ويطمئنّ الضّمير
ويرخي الوثاق عن صدر الإنسان ،لتستريح ويذوق طعم الرّاحة والنّوم
بعد طول معركة دامية،أتعبت النّفس ،وحيّرت العقل ،وجرحت القلب
سينام الإنسان قرير العين،مرتاح البال،وستعفو عنه مملكة الأخلاق
والقيم،ولن تنزل به العقاب،ستمضي العلاقات الإنسانية تربطها المحبّة
ما دام لمملكة الأخلاق والقيم مفتاح سرّ النّفوس.
لكنّ الشرّ ظلّ يتربّص بالإنسان ،ينتظر الفرصة لينقضّ عليه.














الصراع الدائم:


منذ أن خلق الإنسان يا أولادي،ورأت عيناه النّور ،ونفخ خالق الكون فيه الرّوح،
وجبله على الفطرة والخير،والشّياطين تترصّد به في كلّ مكان وزمان
نزلت كلّ الشرّائع السّماوية ،لتحثّ الإنسان على التّمسك بالأخلاق والقيم
ونبذ الشرّ ،والابتعاد عن المحرّمات والمنكرات ،فعزّز الله رسالته برسل
وأنبياء،حملوا راية الحقّ،وأناروا شعلة الهدى،فساقوا الإنسان إلى الطّريق
الصحيح.
لكنّ الشّيّاطين كانت دائما،تضمر الشر والعداوة للإنسان،فزرعت بذور الشّرّ
في بعض البشر،وأشعلت نار الفتنة بين الإنسان وأخيه،فانقسم البشر إلى
حزبين،حزب آمن بالله وعمل برسالته،وصان الأخلاق والقيم،وحضن
الضّمير في صدره وحماه من الموت والفناء،
وحزب اتبع خطوات الشّيطان،وسمح لوساوسه أن تعشّش في صدره
وتسيطر على عقله،فأعلن الطّاعة والولاء للشّيطان،وبذلك أعلن العصيان
والتمرّد على مملكة الأخلاق والقيم ،وكفر بالرّسالة الإلهية التّي جاءت
لتصون الأخلاق والقيم ،فراح يعيث في الأرض الفساد،ويعبّد الطّريق
ليحكم الطّغيان،ويطمس إنسانية الإنسان،فنشب الصّراع بين الخير والشّرّ
إنّه صراع أبدي بدأ مع الجنّ ،ثم انتقل إلى الإنسان ،فبعد تمرّد
الجنّ،وإعلانهم العصيان،والخروج عن العقيدة،ونفي الأخلاق والقيم
راحوا ينشرون الخراب والدّمار،وكثر الفساد في الأرض،فأرسل الله
من عنده من يحارب الشرّ،ويدافع عن الخير،ويصون مملكة الأخلاق
والقيم.
نشبت حرب ضروس بين الخير والشرّ،بين من يدعو للتّمسك بالعقيدة
الصحيحة،ومن يدعو لإباحة المنكرات والتخلّص من حكم الأخلاق والقيم
والتّحرّر من سلطتها على المخلوقات.
كان قضاء الله وقدره أن تعلو كلمة الحقّ،وينتصر الخير على الشرّ
لتبقى الأخلاق والقيم تتربّع عرش الحكم ،وتظلّ الأرض تعمر بالخير
والإحسان ،وتطرد شياطين الشرّ بعيدا إلى الجزر المهجورة.
وتعود الأرض تنعم بالأمن والسلام.
ينزل مخلوق جديد من السّماء،ليرث الأرض،ويحيي فيها شرائع الله
ووحي السّماء،وتستغرب الملائكة الكرام،قرار الرّحمان.
إنّه الإنسان فضّله الله على سائر الخلق،وفوّضه ليحكم الأرض في عدل
وإنصاف ،ويحتكم في ذلك للأخلاق والقيم ،متمسّكا بالعقيدة الصّحيحة
ومنتهجا السّبيل والصّراط المستقيم.
تتخوّف الملائكة من تكرر تجربة الجّنّ مع الإنسان،ويعمّ الأرض الفساد
ولكنّ الله أوحى للملائكة أنّه اختبار من نجح فيه فقد فاز بالنّعيم ،ومن
عصى فسيساق إلى الجحيم.
لكنّ الشّياطين ظلّت تتربّص بالإنسان ،وتوسوس في نفسه الطّاهرة ،تحاول
تدنيسها بزرع الأفكار الخبيثة في عقله،ودفعه إلى المعصية ،والخروج عن
شرع الله.
كان الشّيطان سبب خروج أب البشرية من الجّنة،بعد أن وسوس له الشّيطان
ليعصي ربه،ارتسمت ملامح العداوة جليّا،الشّيطان العدوّ المبين للإنسان
والذّي سيعمل ليقطع حبل الوثاق بين العبد وربه،فيخرجه عن شرع الله،
 و يتبّع هواه ،غير آبه بحدود شرعه،ولا مبال بحكم الأخلاق والقيم.
هكذا استسلم بعض البشر للشّيطان،ونصّبوه سلطانا على أمرهم،وبذلك
دقت طبول الحرب من جديد،وتفرّقت البشرية بعد أن كانت أخوّة الفطرة
تجمعها،لتندلع الحرب حول أيّ القيم ستسود لتحكم الأرض ،ومن هو أحقّ
بحكم الأرض ،حرب ينقسم فيها البشر دائما إلى قسمين ،قسم يعبد الرّحمان
وأخذ على عاتقه حماية الأرض من الكفر والطّغيان،وقسم من البشر أراد
الخلود وأباح كل محرّم،وفوّض أمره لإبليس،فحلّ عليهم غضب ربّ
العرش العظيم،ونصر المتّبعين وعزّز رسالته بالمرسلين،لينيروا الطّريق
للمهتدين،وينذروا من أعرض عن ذكره ،وآثر إتّباع الشّياطين بعذاب
الجحيم.
جاءت رسل الله لتبين للخلق أيّ السّبل يؤدّي للنّعيم،فنشروا الخير وحكموا
بالعدل،فكانت حياتهم ،نعم الحياة ،التّي تنبع بالأخلاق والقيم،الصّادق الأمين
خير البشر أجمعين،وآخر المرسلين ،جاء ليتمم الخلق الكريم،فكان خير
السّراج المنير،هو ومن تبعه من الخلفاء الرّاشدين،ومن بعدهم الصّالحين
ممن حملوا راية الحقّ،وعملوا بالشّريعة وما نزل في الدّين.
وعلى مرّ الزّمن ،توالت ضربات العدوان،وراحت تعصف بالأخلاق والقيم
وتضرب اللّجام على اللّسان ،وتضيق الخناق على الضّمير،وتدعو لنفي
الأخلاق والقيم،وتمهّد الطّريق لتصدير قيم جديدة ،قيم تدعو لتحقيق المصلحة
الشّخصية للفرد ،فجعلت رمزا للحضارة والتّقدم،وجعلت كلّ شيء مباح
تحت ذريعة الحفاظ على مصلحة الفرد،وما هي إلا وساوس شيطانية ،عادت
في حلّة جديدة،لتلوّث يد البشرية بدم أفعال إجرامية،لا تراعي الضّمير
 والإنسانية ،قيم راحت تبسط سلطتها على ربوع الإنسانية،وزادت في
رواجها الوسائل الإعلامية،التّي دخلت إلى البيوت دون أن تستأذن أو تطرق
الباب،فوجدت لها وكرا في عقل الطّفل الصغير،فظلّت تغذيه ،وترضعه من
لبنها المسموم.
قيم دخيلة،تحوّلت من منبوذة مرفوضة،إلى مستحبة مطلوبة،قيم سادت على
أرض الواقع ،كفرت بالأخلاق والقيم،وأطلقت عليها اسم المثل التّي لا تسرح
سوى في خيال الإنسان،ولا تصلح للحكم أو تحقيق مصلحة الإنسان.
ظلّت تتوسّع وتمتدّ،حتّى تراجعت مملكة الأخلاق والقيم،ولم يعد لها ذكر
على اللّسان ،ولا تدرج في الحسبان.
قيم سوقت باسم الحضارة والتّقدم،فحوّلت الإنسان إلى وحش مفترس ،وراح
البشر يتصارعون،ليس لإعلاء كلمة الحقّ،ودحر المنكر والباطل،وصون
الأخلاق والقيم ،ولكن لأجل تحقيق مآربهم،ومطامعهم،التّي لا تحتكم لا
للأخلاق ولا للقيم الحميدة والمجيدة.
أطماع ليس لها حدود ،كلّ ما تبلغه اليد يصير ملكا لها،كلّ ما يراود النّفس
تركض وراءه لا تلتفت لا للأخلاق ،ولا للقيم.انتهى مجد الأخلاق ،ودفع
بالقيم إلى زنزانات النسيان،و سلم مفتاح الحكم للإنسان،وفكّ الوثاق عن
غريزة الحيوان فيه. 














الشيطان، وطغيان الإنسان

يوم بعد يوم ،راح الشّيطان يلقي بسحره وتعويذاته على الإنسان،ويشعل
في قلبه نار الأنانية والغرور،ويوسوس له بترك عادات وعقائد من خلا
من آبائه على مرّ العصور،وفتح صفحة جديدة تدشّن حياة المرح، واللّهو
دون نقصان أو قصور،ودون التفات لما خطّ في السطور، أو جاء في سنن
الأوّلين من أحكام وشرائع.
وهكذا أخذ الإنسان يخطّ خطاه لتحقيق مجده ،المختلط بسمّ الشّياطين،
لا يراعي في سبيل تحقيق مصالحه،الكبير ولا الصغير،
فراح يسمع التّصفيق والتّهليل لإنجازه،فلم يكتفي ،وأراد أن يسوّق أفكاره
للجميع ،فيسوقهم إلى الجحيم،وفعلا تحوّلت الحياة إلى جحيم،تأكل فيه نار
الحسد القلوب المريضة ،وتهضم البطون المكاسب المسمومة،
صار الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان،ذئبا يترصّد بكل مغنم،غير مبال بمصدره
لا حكم سوى للقوّة،ولا كلمة إلا للمدفعيّة،السّلب والنّهب أسرع الطّرق
للحصول على العيشة الهنيّة،الطّمع يطغى ،وطغيان الإنسان على أخيه
الإنسان لا يعد ولا يحصى.
حرب مدمّرة طغت على السّاحة ،ولم تترك مساحة للإنسان ليحصل على
استراحة،يتفكّر فيها برهة مع نفسه،لعلّه يذكر الورطة التّي أوقع نفسه فيها
لا، الزّاد في نقص وفناء،وعليه يتقاتل الأشقّاء والأعداء،وكلّ يبسط لطغيانه
الأسباب،ويتحجّج بصون مصلحة الإنسان ،تسقط الأرواح ،وترمّل النّساء
وييّتم الأطفال،تهدم البيوت،وتخرّب الجدران بمدافع وقنابل الوحش البشري
الغدار،نصف البشرية وأكثر يعاني مرارة العيش،ويشقى من أجل لقمة
عيش تسد رمق الجوع،والنّصف الآخر ،في بذخ وترف ،لا يبالي ،مطلق
العنان للأفراح،لا يختنق صدره لمعاناة الجيران،لا يلين قلبه لأرملة راحت
تترجّى من يجود عليها ،لتسدّ جوع صغارها الأيتام.
إنّه طغيان الإنسان،حين يبطش بالبشر الأبرياء،فيغزو البلاد الضعيفة
يجعل مبانيها رمادا متناثرا،ويجعل سكّانها عبيدا وسخرة،ويستحوذ على
ثرواتها وخيراتها،ويجعل أصحابها بلا زاد ولا مأوى.
اختلطت الحسابات في زمن التّحضر والتّقدم،ذهبت ممالك وجاءت ممالك
لكن أين المنطق السليم ،أين الحكم الذّي يعيد للإنسان إنسانيته ،أين القاضي
الذّي يرجع في حكمه إلى أسمى الأخلاق والقيم.
لم يبقى من الحكم سوى الطّغيان ،ولا من العدل سوى ما شرعه من بيده
قوّة المدفعية والدّبابة،لا حكم إلاّ للرّصاصة التّي زهقت أرواحا وأرواحا.
عمّ الفساد ربوع الأرض،وتولّى مقاليد الحكم ،من لا يهتمّ سوى بتعذيب
الإنسان،يتساقط القتلى كأوراق الشجر حين تهب عليها رياح الخريف ،
وأسياد هذا الزمان يشربون نخب انتصارهم المجيد على إنسان لم ينل من
الدّنيا سوى ضمير ظلّ يتغذّى من الوريد ،فيحين داست أقدامهم الخشنة
على ضمائرهم اللّينة،فاخشوشبت الصّدور،وصارت كاللّوح لا سبيل
للولوج إليها ،لا تفتح الباب لنسيم عليل ينعشها،ولا تعطي أذنا لكلمة
رقة تطفئ نار الحقد المتّقدة داخل القلوب.
صوروا الطّغيان على أنّه انتصار،فصار متداولا على اللّسان ،فلقي المدح
والاستحسان،ونسي الإنسان الكرم والصّفح والإحسان،وراح يركض وراء
مصلحته،ويفتخر إذا بلغ إليها السبيل،لكنّه صار ينام غير مبال،لقد أوصد
الأبواب في وجه ضيفه المعتاد،لقد أبقى الضّمير خارج صدره،ورماه إلى
الخارج ،لا دفء الصّدر يؤويه ،ولا وريد القلب يغذّيه.
لقد بدأ البشر يتحرّرون من الأخلاق والقيم، و لم يعد للضّمير في أفعالهم
أمر،لم يعد في السّاحة سوى الأطماع المزيّنة بغلاف ذهبي،يأخذ الأنظار
ويأسر القلوب،ويسحر العقول،فيسير البشر وراءه دون الانتباه لما يحوي
بداخله ،فتحوّلت الحياة إلى زحام شديد تتصارع فيه المصالح،ويتخبّط
فيه البشر،يبيعون بعضهم بعضا ،ببعض دنانير تدخل رصيدهم،دول
تبتلع دولا،وبشر يسلبون كرامة الإنسان جهارا نهارا.
صارت الحياة مضمار سباق، يسوق فيها الإنسان جسده الخالي من الرّوح
بسرعة ورهبة،يتلهّف لأيّ شيء يحقّق مصلحته،وفيما البشر يتقاتلون
ترى إبليس متربّعا على عرشه،فرحا بنصره على الإنسان ،الذّي لم يعد
إنسان ،فقد ذهب عنه عبق الفطرة الإلهية،و خرج عن ملّة سيّد البشريّة
وخان الأمانة،وفرّط في الرّوح الإنسانية.
لم يعد للضّمير سيطرة على الأمور،حاكم قد اجتمع عليه القوم،واتّهموه
بتعطيل مصلحة الإنسان .
قد كثرت شكاوى الإنسان منه،فقد ملّ الإنسان من مضايقة الضّمير له عند
المنام،وصار الجميع ينادي بنفي الضمير خارج المملكة الجديدة،ليتمكن من
النّوم في هناء.
كثرت الشّكاوى حتّى وصلت إلى القاضي الجديد قاض لا يؤمن بالعدل
والحقّ ،قاض يهمّه الرّبح والمصلحة فقط،قاض لا يفقه سوى لغة الحسابات
والمكاسب،قاض اسمه "مصلحتي ونفوذي".
ستعقد الجلسة قريبا بين الإنسان الذّي صار يرفع شكاوى لا متناهية ضدّ
الضمير الذّي يراوده في اليقظة والمنام،فيمنع عنه النّوم،ويفسد عليه سعادته
التّي قطفها من شجرة الجحيم ،التّي لا تعرف الرّحمة.
والضّمير الذّي ضلّ ينبض ،حين غابت عن الإنسان إنسانيته،وانسلخت
عن العطف والحنان جلدته،وذهبت مع المصلحة فطرته.
الضّمير الذّي ضلّ ينبض ،يحاول السّيطرة على جنون الإنسان ،وجنوحه
للقوّة والطّغيان،ليخرجه من سيطرة الطّمع والجشع ،لينقد إنسانيته من
فتك الطّغيان،ليهديه الطّريق إلى النّور،ليدرك مخطّط  الشّيطان،الذّي أوقع
العداوة والبغضاء بين الإنسان وأخيه الإنسان.
الضّمير الذّي سينظر القاضي في أمره،وسينزل عليه أشدّ العقاب ،
ضمير لم يبقى له عند الإنسان مقام .
فقد سرى الطّغيان في دم الإنسان ،وتحوّل إلى وحش أعمى لا يبصر
إلاّ مصلحته ،وقد ارتأى في ذلك إقصاء كل ما يحول بينه وبينها
بدأ بالأخلاق و القيم، وختاما بضميره الصغير.


















المحاكمة


عقدت الجلسة ،فحضر حشد كبير يدافع عن مصلحة الإنسان ،ويرمق
الضّمير بنظرات الحقد والكره،والتّأنيب ،ويطلقون صيحات السّخط و
الاستهجان،على تعطيله لمصلحة الإنسان ،
أمّا الضّمير فقد كان يجلس في حضن قلّة قليلة من ضعاف الحال،والتّي
فزعت من نظرات الشرّ التّي تنبعث من أعين حماة مصلحة الإنسان
وقد تملّكهم الرّعب ،وخافوا على حالهم من الانتقام ،والاتّهام بالخيانة
والرّجعية و الولاء للمملكة القديمة،مملكة الأخلاق والقيم التّي اندثرت
ولم يبقى لها وجود،إلاّ في بعض الأراضي التّي لم يمتد طوفان الطّغيان إليها
بعد،لم يبقى على السّاحة سوى الضّمير الذّي ظلّ يكافح من أجل العودة
للمجد ،من أجل الارتقاء بالإنسانية من جديد،وأقدام الغطرسة البشريّة
تدوسه.
يدخل قاضي الزّور والجور،يحمل بيده صولجان الأنانية والغرور
فيسود القاعة الهرج والمرج،ويسمع قرع طبول الحرب،الحرب
على ضحيّة قطّعت أشلاءه أيدي البشريّة،ومسحت في ظهره الذّنب
وأطلقت عليه ألقابا،تنم على الضّحك والسّخرية.
يستمع قاضي المصلحة والأنانية لشكاوى الإنسان الخالي من
القيم والإنسانية ،وتتعالى أصوات الغوغاء والبربريّة ترجو من
القاضي القصاص وإعدام الضّحية.
لم يستمع القاضي لدفاع الضمير،وأين من يدافع عن الضّعيف والّضحية
في زمن لا همّ للإنسان فيه سوى مصلحته وإن فنت من بعده البشريّة.
لم يحل القاضي الكلمة للضّمير،فمن ذا الذّي يعيره اهتماما،إنّه آخر روح تحتضر
إنّه آخر فرد من مملكة الأخلاق والقيم التّي حكمت الإنسان وغذّت إنسانيته
لمروج الخير والإحسان،ولملئ الأرض عطاء وجودا وحنان.
لكنّ الزّمن ،رفع السّتّار عن وحش آدميّ ،كسرت نفسه أقفال سجنها،
وخرجت تترك خلفها آثار الإثم والطّغيان.
رفع القاضي الجلسة،سيعلن الحكم عند هبوط اللّيل،لتحضر الشّياطين
وتبارك لهم نصرهم ،وتحرّرهم من قيد لازمهم لسنين ،وحرمهم من العيش
في حرّية مطلقة،دون حاجز يسدّ طريق مسعاهم للوصول إلى الكمال
المطلق،والقوّة التّي لا تقهر،ودون عراقيل تعثّر استعراضهم لقواهم،
وتجربتها على الضّعاف والمساكين.
سيساق الضّمير إلى حفرته ،في أبعد جحر في القلعة،التّي تلبّدت سماءها
بغمام أسود ،و برقت ببرق يعمي الأبصار،وقد دوّت رعدها كطلقات
المدافع.
فيما أشعل القوم النّار ،وراحوا يدورون حولها،ينتظرون أن يطلّ عليهم
قاضي الزّور والجور،فيبيح لهم قتل الضّمير،فيبدأ عهد جديد يعيش
فيه الإنسان دون قيد، أو حديد يشدّ يده عن البطش ،والقتل ونهب العبيد.
اعتلى القاضي المنصّة لينطق بحكمه،لقد قرّر نفي الأخلاق والقيم خارج
مملكة الإنسان،وأصدر بيانا يمنع تداولها على اللّسان.
أمّا الضّمير فقد أبقى على حياته ليس رحمة وشفقة،وإنّما انتقاما وتسلية
لقد ارتأى صلبه أمام الملأ ،ليكون لإنسان هذا الزّمان رمز الانتصار و
التفوّق على مملكة حكمت الإنسان،وعطّلت مصالحه،مملكة حرمت الإنسان
من تحقيق كل ما يريده ،مملكة خطّت الحواجز ،وزرعت الأشواك في
طريق مصلحة الإنسان .
مع تقلد الحكم قائد جديد ،جاء عهد جديد،يفتح الطّريق للإنسان ليحقّق نصره
المجيد،نصره الذّي يسعى إليه دون أن يلتفت لمن أرداه قتيلا،أو جعله يتيما.
سيصلب ضمير الإنسانية،وسيعلّق أعلى القلعة الجهنّمية ،لتشهد البشريّة
عن تحرّرها من عراقيل الضّمير والرّوح الإنسانية،وتفتح لها الشّهية لتلتهم
الأخضر واليابس،وتبيح المحرّم والمكروه،لتمضي في سبيلها،لا تترك خلفها
سوى آثامها،لا تراعى الأخلاق والقيّم الإنسانية.
ستكون اللّيلة أوّل ليلة ينام فيها البشر في هناء،لم يعد لذلك الجزء الذّي
يتعلّق بالقلب ويشدّ على الصّدر وجود،لن يحرم البشر من النّوم الطّويل
بعد اليوم،لذا ستطلق المفرقعات ،وتبدأ الاحتفالات ،وتنتشر أخبار الخلاص
من الأغلال ،والقيود التّي كانت تحكم الإنسان.
ظلّ الضّمير معلّقا ،ومصلوبا،ومضى الإنسان في سبيله،يترك آثار الشّرّ
خلفه أينما حلّ،ليس للإنسان ما يحتكم إليه ،لا أخلاق ،ولا قيم،ولا ضمير
يؤنّبه،ويدلّه على خطئه،راح يصول ويجول ،ويعيث في الأرض الفساد
لا يبالي،ولا يراعي إلاّ مصلحته،فصارت البشريّة كالذّئاب،لا تجتمع إلا على
وليمة،تفترس كل ما يقع بين مخالبها.
اشتدّت حياة الإنسان،وبلغ شرّه حدّا لا يطاق،وصار الكلّ يخشى على
مصالحه من شرّ أخيه ،فصار لا ينام لا اللّيل ،ولا النّهار ،يمضي صباحه
ومساءه يعدّ العدّة للأعداء،وينصب الكمائن للأحباب والأصدقاء.
تحوّلت الحياة إلى جحيم لا يطاق،كلّ إنسان يترصّد بأخيه الإنسان ،
والكلّ يشكوا حاله،وغشي القلوب غمام أسود،وعميت الأبصار عن رؤية
الحقّ والصواب في مملكة دفنت الأخلاق والقيم تحت التّراب،وراحت
تفتخر بما أنجزته في سبيل خدمة مصلحته.




الجحيم



 تحوّلت حياة الإنسان إلى جحيم،يعلوا سماءه الظّلم،بعد أن كانت تعلوها
القيم ،وصار لا يبصر الطّريق ،وراح يتخبّط بين جدران المصلحة ،تدفعه
أمواجها حيث تشاء،لتتصادم مع مصالح غيره،فينشب الصّراع ،صراع لا
مبرّر له سوى أنانية الإنسان ،وحبّه للتّسلط والطّغيان.
إنّه صراع الجاهلية الأولى،صار الإنسان يأكل لحم أخيه الإنسان ،ويشرب
الإنسان دم أخيه الإنسان،فغيّب الحقّ،وأزهقت الأرواح، ويتّم الأطفال،
ورمّلت النّساء،ودمّرت البلدان،وصفّت الأرض بجثث الموتى لا لشيء
سوى لتحقيق مصلحة الإنسان في مملكة حكمت قلب كلّ إنسان،واستحوذت
على عقل كلّ إنسان،أخلطت كلّ الحسابات ،ولم يعد فيها للخير أيّ حسبان
فالخير ما حقّق مصلحة الإنسان.
تزداد حدّة الصّراع يوما بعد يوم،وينسلخ الإنسان عن جلدة الإنسانية رويدا
رويدا،ويتحوّل إلى وحش آدمي،لا يفقه سوى لغة المكسب والمغنم،
واشتّدت قسوة القلب حتّى جفّ نبع الحبّ والحنان فيه ،وتحوّلت مروج
المحبّة والعطف فيه إلى أرض قاحلة،تبعث بحمم بركانية ساخنة،حمم
الحقد والكراهية،وغابت رجاحة العقل ،وحكمت مكانها أفعى جهنمية
تنفث سمّ الخبث والمكر في كلّ عين بريئة ،وظلّ الضّمير ينبض فيها خفية
خشية سوط الأفعى الجهنّمية.
شيئا فشيئا تتلاشى ملامح الإنسانية ،وتتخشّب الرّوح البشريّة،وتبرز على
الوجه قسمات العدائيّة ،لا معنى بعد الآن لروح الإنسانية الشّدية ،كالطّير في
سماء الفطرة الإلهيّة.
ستتحوّل الحياة،والشوارع والأزقّة إلى ساحات ومساحات لا تحمل فوقها
سوى أشكالا بشريّة،أجساما خالية من الرّوح الإنسانيّة،وأيدي تبطش دون
أن تراعي الطّفولة البريئة،وأفواها تأكل كلّ ما تصادف أمامها، دون أن
تلتفت إلى أفواه أطفال جياع ظلّت بطونهم خاوية،أين القيّم الإنسانيّة؟
سيعمّ الفساد ،ويكثر القتلى ،وتهدم البيوت ،باسم المصلحة الفردية،
ستندلع الحروب ،وتكثر المعارك،ويسقط القتلى والكلّ ينادي أين
المصلحة الفردية؟.
المصلحة الفردية تبيح قتل الأخوة، والمحبة ،بحجّة الوصول إلى الذّروة
والكمال،متى كانت الأخلاق والقيم تنقص من قيمة الإنسان؟،ألم تكن خير
دليل وعنوان تدلّ على طيبة،وترفع الإنسان عن المنكر والخيانة والعدوان؟
ماذا تغير؟ أجيبوا يا أطفال ،استحوذ الشرّ على النفوس ،وارتدى الإنسان  ثوب الأنانية
ترى الحروب بين البلدان،ترى الحروب داخل البلدان،ترى الحروب
بين الأخ وأخيه ،بل وترى حتّى الإنسان يتصارع مع نفسه،يضطرب
وتختلط عليه الحسابات حول أيّ السّبل يحقّق له أكبر مصلحة؟.
صار الإنسان يخجل من ذكر الأخلاق والقيم على لسانه،ستتّهمه محكمة
المملكة الجديدة بالخيانة والرّجعية ،والولاء للمملكة القديمة.
المملكة الجديدة ،الملاك الحارس على رفاهية الإنسان ،الملاك الحارس
على توقير الإنسان ،الإنسان الذّي تحوّل إلى هيكل متحرك يجرّ خلفه أذيال
الطّمع والجشع ،ويغرس مخالب الأنانيّة في جسد الضّحية الفتيّة،خرجت
 للدّنيا صفية نقية ،فعصفت بها أمواج الخيانة البشريّة ،ولفّت حولها أغلال
الاستبداد،والاستعباد الأبديّة،في مملكة لا تعير اهتماما إلاّ للقوّة والجبروت
والبحث عن الخلود والأزليّة ،على عرش الحكم الجوري،الانتهازي،الذّي
يمقت القيم الإنسانيّة التّي صارت منسيّة،ويقتل كلّ نفس زكيّة ،ويبيح التّعدّي
والعدوانيّة إذا كان ذلك في سبيل تحقيق المصلحة الفرديّة.
الحياة جحيم ،الكلّ يبكي ويشتكي ،والمملكة الجديدة تنادي :مزيدا من الحرّية
والمصلحة الفرديّة،الحياة تسوء ،وتسوء،والجميع يركض ،ويلهث يبحثون
عن المخرج من الورطة الكبيرة.
لا بدّ من الجلوس إلى مائدة مستديرة ،تطرح كلّ مشاكلنا عليها،ونهتدي
 لطريقة منيرة ،نقتسم فيها مغانمنا الكبيرة، ونعيش عيشة هنية.
ولكنّ الطّمع والجشع ،مازال يستتر في النّفوس ،والخبث والمكر لا يزال
يسري في العروق،والكلّ يدعي البراءة ،وكلّ ما يدور في البال مزيد من
السّلطة والنّفوذ.
















الأنين
احتار إنسان هذا الزّمان سبب الغمام الذّي غشي القلوب،وسرّ هذه المعيشة
الدنقى التّي طغت على حياته،واستغرب جنون البشر وركضهم وراء
المصالح.
لم يتعب الإنسان نفسه ليرفع رأسه للسّماء ،فيرى الحلّ معلقا أمامه،ثمّ
يرمي ببصره في السّماء العلياء،ليدرك أنّ خالق الكون والسّماء قد خلق
كلّ شيء ووزنه وزنا،فسبحان الله لا تعمى الأبصار وإنّما تعمى القلوب
التّي في الصدور.
الضّمير معلّق ،يئنّ ويئنّ،ولكن من يلتفت ليرى الحلّ معلقا أمام عينه
تعمى القلوب التّي أعماها الطّمع والجشع عن رؤية الحقّ اليقين،
عميت عن رؤية الملاك الحارس الذّي كان يحرس نفس الإنسان من
التّدنيس،الملاك الحارس الذّي كان السّراج المنير لعلاقة الإنسان الطّيبة
مع بني جلدته، الملاك الواعظ بالخير والعطف والرّحمة في علاقة الإنسان
مع أخيه الإنسان،ومع سائر الخلق على وجه الأرض.
اليوم ،وفي زمن المصلحة لم يعد له أيّ حسبان،إنّه معلّق أعلى قلعة المملكة
العمياء،والإنسان ممتطى خيل البوليس ،يدوس أشلاءه المتساقطة والمتناثرة
على ربوع ساحة مملكة الظّلم والجور،التّي أسّست على أنقاض الدّمار
الذّي هدم مملكة الأخلاق والقيم،وعصفت بها الزّوابع إلى بعيد فلم نعد نسمع
بها من قريب أم من بعيد.
فتحوّلت الحياة إلى جحيم ،يتبادل فيه البشر الطّعنات بسكين الخيانة والأنانيّة
تحوّلت الحياة إلى لهيب تأكل فيه نار الحقد الأخضر واليابس .
يئنّ الضّمير ،ليس لأذى أو مرض أصابه جراء بقائه معلّقا،إنّما يئنّ لحال
الإنسان التّي وصل إليها،حالة يرثى لها الجبين،وتدمع لها العين،ويتقطّع لها
الفؤاد،غابت ملامح الجمال الأخلاقي عن وجهه،وجفّت ينابيع الرّحمة التّي
كانت تجري من قلبه،وشحّ لسانه عن النّطق بالكلام العذب لتأنس له نفس
الصّبي الصّغير،وتقرّ بها عين الشّيخ الكبير.
الضّمير بريء ممّا أصاب الإنسان،إنّه يئنّ ويتألّم ،ولكن ما باليد حيلة،لقد
قشّر الإنسان عن أنيابه،وبرز للعيان الوحش المستّعر بداخله،وتتحوّل الطّينة
البشريّة الطيبّة إلى غول يخشاه أبو الهول،وجميع الطّغاة على مرّ العصور،
فكيف هي حال الفتى رطب العود كالعصفور،كيف يعيش الذّي لم تبتسم له
الدّنيا،ولم يدري أين سرّ البلاء الذّي أصاب البشريّة،حتّى صارت كالوحوش
البريّة،بل وأسوء فالوحوش البّرية على الفطرية سريّة،أمّا الوحوش البشريّة
فدميّة انتقاميّة من ضعاف البشريّة،إذا بطشوا بطشوا جباّرين ،يبغونها عوجا
يقدّسون الفساد ،ويبتهجون بقتل الأطفال،وهتك الأعراض،والفتك بالقيم
والأخلاق،وضعاف من البشر على دربهم يسيرون،ولا تدري هل هي مقولة
الضّعيف مبهور بتقليد القويّ،أم أنّهم علّقوا ضمائرهم،أم نسوا أنّ الخالق
يحرّك الكون كيف يشاء.
يظلّ الضّمير معلّقا يئنّ ،ينادي بني البشر أن يعودوا إلى رشدهم ،ويفكّوا
عنه قيده،ويترجّى قاض المصلحة أن يعدل عن حكمه،ويسمح للأخلاق و
القيم أن تعتلي سدّة الحكم من جديد ،علّها تعيد المياه إلى مجراها القديم.
إنّه يتوجّع لحال الإنسان الذّي أصابته حمّى الجشع والطّمع،وغلبت على
عقله المكائد والخدع،فصار لا يفرّق بين المكسب الحلال ،والمكسب الحرام
فكلاهما يسري في البلعوم.
عسى يأتي يوم،تطلع فيه شمس العدالة،فتنقشع الغيوم عن عقل الإنسان،
وتنير له درب الحقّ،يوم يرجع فيه الإنسان إلى حكم الله، يوم يجدّد فيه
الإنسان ولاءه لمملكة الأخلاق والقيم،فتعود ينابيع الرّحمة والحنان إلى
الجريان،ويسود الأرض السّلام والأمان.
عسى يأتي يوم يرفع فيه الإنسان راية الكفاح ضدّ الظّلم والطّغيان،فيعيد
للإنسان كرامته المسلوبة،ويحقّق العدل،ويحكم الأرض والعباد في عدل
وإحسان.






















الانتفاضة

ظلّ الضّمير معلّقا يتساءل متى يبزغ في السّماء
نور يضيء للإنسان الطّريق،ويحثّه على الكفاح ضدّ الهمجيّة والدّمويّة
نور يحي النّفس البشريّة،لتصحو وتدعو لإرساء قيم دفنها طغيان الإنسان في
الماضي ولم يعد لها مقام ،ولا تراعى في الحكم بين البشر،وإنما الحكم
للقوّة والبندقيّة.
انتفاضة تكشفت السّتار عن المخفيّ من الظّلم والاستبداد،وتزيح ما اختزن
طويلا في نفوس البشر من أنانيّة ومكر،حتّى نسي أنّه كان يوما ما
إنسانا له مشاعر وأحاسيس،يتنفّس الإنسانيّة ،ويشدو بالأخلاق والقيّم.
انتفاضة لتعيد للإنسان إنسانيّته المنفيّة خارج مملكة الظّلم
والطّغيان،انتفاضة لتؤكّد من جديد أنّ الإنسان قد فطر على الخير
وقد منح ولاءه للأخلاق والقيّم المحمودة،وأنّها وحدها تعلوا وتسمى فوق
سماءه ،وأنّها وحدها الأصلح لشأنه.
فويل لمن أراد أن يحرّف الفطرة الإلهية،وويل لمن أراد أن يتلاعب
بالبشريّة لتحقيق غايات فرديّة.
انتفاضة لمن سئم المغالاة في الطّغيان وتحريف القيّم،فحرّروا نفوسهم من
الأنانيّة وأغلال المصلحة الفرديّة ،ليضعوا اليد في اليد ويقفوا في وجه
الطّغيان كالبنيان المرصوص فيكسروا سلاسل الاستّبداد والاستّعباد التّي
كبلت أفواههم عن قول الحقّ،وأيديّهم عن تغيير المنكر لسنين طوال.
 ستكون صحوة الضّمير في قلب الإنسان خير دليل على تحرّره من الأنانيّة التّي زرعت فيه،
وإيثاره وإخلاصه للمصلحة الجماعيّة،وتفضيلها على المصلحة الفرديّة
التّي زرعت الكراهيّة بين البشر،وحوّلت الإنسان إلى ذئب يقتنص المغانم
دون أن يلتفت إلى البقيّة.
فهل يا ترى سترفع رايات لإعادة حكم القيّم،والارتقاء مجدّدا بكرامة الإنسان
وبهذا تعلن الانتفاضة ضدّ النّفوس البشريّة الشّريرة، وتندلع الحرب مجدّدا
بين الخير والشرّ،بين الأخلاق والقيّم التّي تصون الكرامة الإنسانيّة،
وبين الوساوس التّي تدعوا إلى تحرّر الإنسان من قيود الأخلاق والقيّم ،
وإطلاق العنان للطّغيان دون مراعاة الإنسانيّة.
حرب قطباها الإنسان باختلاف قيمه وتناقضها،فمنهم من اختار طريق
الخير ومنهم من آثر مصلحته وكفر بالأخلاق والقيّم وأباح كل منكر
وسعى في خراب الأرض.
حرب قائمة منذ الأزل وإلى أن يحكم الله في أمرها....
وغادر الشّيخ حسين يقوده غنمه نحو المراعي ،فيما انطلقت مع رفاقي إلى ساحة المدينة
وكلّ واحد فينا يتحسّس بيده على صدره،يبحث عن ضميره هل هو حاضر أم تّم إقصاؤه.














Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire